البيان الأخير ... والأول...
بين الذكرى والألم
الكاتب: جيهان دايخ
ها
قد أتيت إليك... مجردةً تمامًا من كل التفاصيل الكاذبة... والابتسامات المزيفة... والإطراءات
الخجولة... واللاخجولة... هاتِ يدك.. واتبعني.. إلى بابٍ، يسميه الجميع "الذكرى"...
وحدي انا.. أسميه "الآلام"...
سيؤدي
بنا هذا الباب إلى نقطة ماضٍ... كاد أن يكون جميلاً.. إلى نوافذَ تتطاير على زجاجها
فراشاتً لعوب... وغروب... وشحوب... وحسناتً... وذنوب...
سنبدأ
من النافذة الأخيرة...
أنظر...
هنا أنا وأنت نقف ظهراً إلى ظهر... وقد أوجدَ كلٌّ منا.. طريق لا عودة... أترى شحوب
زجاجها؟ وتشققاته؟ صدعته حجارنا ... اعذر الإنارة... فقد شح في هذه المرحلة الضوء.
ولا تشعل سيجارة.. فهنا صار خانقاً الدخان... هنا جفَّت مياه البحر واستنفذت كل مسامات
الهواء... فوقف الحب هنا.. في صراعٍ ما بين العقل والجنون... إلى أن جثا على ركبتيه...
ووقع في الأخير شهيدا!ً
الآن
... نحن على النافذة ما قبل الأخيرة... هنا أقفّت عيني ماءَها.. وارتفع سوادها... إلى
أن شحّ البصر... هنا أنا "يعقوبك" الذي انتظر طويلاً أن يشتمّ قميصَ
"يوسفِه"، كي يرى... أو يُرى...
هنا أنا "موساكَ" الذي شقّ بحراً أحمر كالدم... فكم كان سهلاً عليه...
أنا
هنا أحاول شق طريقي إليك ولا أنجح! فحملت "كهو" عصاي... إستبقني الوقت إلى
أن أصبح كل منا في زمنٍ مغاير... لسعتني عقاربه... وأنا أنتظر التفاتةً منك... لكنك
أعمى "كيعقوب".. وغائباً كيوسف.. أنا في هذه المرحلة، وقفت وراءك... شرخت
جأشي من ضلعٍ كئيب وجعلت منه آلةً أنتزع به، في محاولاتٍ بائسة، الخناجرَ التي أدماك
بها غيري من ظهرك المتين... خناجر.. لا ذنب لي بها.. ولا حول لك عليها... ولا قوة!
كنت قد بدأت أخسرك في هذه المرحلة... وكل قواي العقلية والجسدية والقلبية والحرفية،
في محاولاتٍ لايقافك باءت بالفشلِ واليأس، فجرفتك قوة التيار إلى طريق شاحب الأقدار...
وصدّق.. أنا ما كنت أركض هاربةً منك... بل مشيت ببطء شبه سريع... كنت في كل خطوةٍ أنظر
ورائي.. متأملةً أن توقف مساري وتعيدني إليك عودًا حسنًا... لكنّني "يونس"
في جوف حوت الأقدار... ولن يخرجني من ظلماتي إلى النور سوى عقلي الغبي الذي غيّبه جنوني
بك... فلنكمل... هنا.. على هذه النافذة... كنت قد أقنعت نفسي أني أحبك. لكني... ربما...
فقط ربما... لم أحبك يومًا... بل اعتدت عليك... إعتدت على وجودك.. على بقائك على لقائك...
على كتفك على عيونك وصوتك وغضبك وكفرك وإيمانك... إعتدت على ألّا أعتاد إلا عليك...
إعتدت على ألا تشهق رئتاي هواء ما لم تكن أنت قد استهليت بزفيره... هذه نافذة الاعتياد...
ويا ليتني... أحببتك... ولم أعتد عليك يوماً...
نحن
الآن قاب قوسين أو أدنى من النافذة الأولى... هنا نقف أنا وأنت وجهًا لوجه تارةً...
وجنباً إلى جنب طورًا...
على
هذه النافذة... نظمت أشعارَ المديح والحب والعشق والهيام والجنون... لحّنت ألحانًا
استوحيتها كلها من نبض قلبي... ورسمت لوحاتٍ جميع ملامحها تشبه بسمةً كنت قد عشقتها
على شفاهك.. كل شيء هنا أنت محوره... هنا... على هذه النافذة... شبكنا أصابعنا... إلى
أن تكسرت... وحضن واحدنا الآخر طويلاً إلى أن تآذت فقرات ظهرنا وغدونا كسيحَيْن!
الآن
وقد انتهت جولتنا... عد من حيث أتيت... واغلق باب الواقع ... بألف متراس... وأنا سأبقى
على بعد مسافة منك... كي أبقى بناظرك حلمًا... وتبقى أنت بنظري.... ذاك الرجل.
إنتهت
الرحلة... وانتهى البيان...!
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.