التاسعة قبل الربع في ساعة
الحرم
"أصعبُ قصّةٍ كتبتها
في حياتي"
الکاتب: مهربان (رقیه کریمي)/ طهران
عن لسان خطیبة
الشهید محمد ابراهیم.
لأول مرة فی حیاتي أكون عاجزة عن الكتابة... وأنا أستمع لکلماتِ ذکریات خطیبة
الشهید... عاجزةً عن كتابة القصة... صامتةً من شدّةِ الدهشة... من عظمةِ الحدث... أخبرت
صدیقتي قائلةً لها أنه من الأفضل ألاّ أکتبَ القصة... لا أستطیع ذلك، وأنا لست بعربیة
الأصل ولغتي ليست العربية، إنها لقصة من أصعب القصص، أخشى أن أضیعَ معناها بكتابتي
لها، وهذا ما لا أريده. أجابتني صدیقتي غاضبةً: "ألا تخجلین من نفسك؟ تسمّین
نفسك کاتبة الشهداء وتکتبین لسنواتٍ عدیدة مضت، والآن تقولین لا أستطیع؟ وهي کانت
لا تعرف أنّنا أحیانًا نعجز ولا نستطیع... أحیانًا یجفّ حبرُنا أمام بعض القصص
فيتصلّب القلم احترامًا لها... ولکني في النهاية بدأت... أغمضت عینيّ وأخذت القلمَ
وردّدت بهدوء: "بسم الله الرحمن الرحیم".
في الساعة التاسعة إلا الربع... وانا أراقب ساعة الحرم....
أبتسم بصعوبة... أنا هنا من جدید... عند الکاظميين... بین ازدحام الزوار، الأطفال،
حمائم الحرم ونسیمٌ علیلٌ مریح. کم مضى من الزمن... سنة؟
لا... بل أقل من ذلك...
کنت جالسة هنا... أتذکر؟ صدیقتي کانت بقربي، ننظر للحرم،
تذكرت الحافلة من جديد، تلك التي وأنا بداخلها آنذاك أنظر من نافذتها إلى الطريق...
لحظة رأیتك أمامي وكأنك تقع أرضًا ببزّتك العسکریة... لا أدري لمَ کیف تراءى لي ذلك
المشهد... بدأت بالبکاء قائلةً: "استشهد محمد"... وکانت التاسعة إلا الربع
صباحًا....
وصلنا حرم الإمامین الجوادين حيث سألتني صدیقتي: "ما
بك؟"
أجبتها: "استشهد محمد".
فردّت غاضبة: "بدأتِ من جدید؟ في المطار قلتِ ذلك في الحافلة
وهنا أيضا؟"
عندها قامت من مکانها وذهبت للزیارة. لم تکن لتفهم کلامي...
لم تکن تعي إحساسي ولم يكن ذلك عجیبًا!
· تعود فرح بالذكرى إلى الوراء
مخاطبةً خطيبها الشهيد:
هي لم تكن تعلم أنّنا روحٌ واحدة "أنت هو أنا وأنا هي
أنت"...
لم أكن في حاجةٍ ليخبرني أحدٌ وأنا في طريقي للكاظمين (ع)،
بأنك استشهدت... أعرف ذلك وحدي... لأننا روحٌ واحدة في جسدين اثنين... تركت مکاني متوجهةً
لحرم المقام قاصدةً الزیارة... مقتنعةً بأن الإمام الجواد (ع) هو باب الحوائج، وددتُ
أن أطلب منه أن تعودَ إليّ سالمًا کما طلبتُ في کربلاء وفي النجف. کنت كلما دخلت
حرمًا، أدعو أن ترجعَ سالمًا، متذکّرةً کلامك قبل ذهابك وأنا أکوي بزّتك العسکریة
حين قلت لي: "لا تعذّبي نفسك بها".
فأجبتك حينها: "أریدك أنیقًا... حتی في الجبهة
الحربية".
ابتسمت وسألتني: "بماذا ستدعین لي عند الإمام؟"
همست: "سأدعو لك بكل شيء ما عدا الشهادة".
أجبتني مبتسمًا: "لکنك تدعین لي بها في کل صلاة".
عندها رسمتُ ابتسامة صغيرة على شفتيّ وقلت: "ولكني
كنت أكمل في سرّي لاسمح الله، لاسمح الله"
وما كذبت عليك. قلت لن أدعوَ لك بالشهادة ولم أدعُ فعلاً.
ولکن ذلك الیوم عندما دخلت الحرم وکانت في یدي تلك الورقة
الصغیرة التي کتبتَ اسمينا علیها، يتوسطهما قلبٌ أحمر صغير، وضعتها في الضریح دون أن
أدعو، کنت أنظر للضریح المحاط بزحمةِ الزائرین، ودموعي تنهمر. هامسةً: "لن
أدعوَ هذه المرة... لأنني أعلم أن محمدًا قد استشهد..."
شعرت بذلك وأنا في الحافلة... لکني تركت تلك الورقة في
الضریح ليحيا حبنا مع الخالدين هنا إلی الأبد.
عدت وجلست خارج الحرم... أرقبُ الحمائمَ متسائلةً كيف أنّي
الآن هنا في العراق ومن دونك... تذکرت کل شيء من جدید.
كيف کنا نتمنى أن نسافرَ معًا ولم یکن ممکنًا بسبب عملك، أو
بسبب دروسي، إلى أن جئت أنت مع أصدقائك إلى هنا قبل شهرین ولم یکن بإمکانك اصطحابي،
وأنا من کنت أعبّر كل يومٍ عن شغفي لزيارة الإمام الحسین (ع)، فتجيبني أنك لن تسمح
لي بالذهاب بمفردي... فأتساءل أيضًا لماذا سمحت لي هذه المرة إذًا؟
أمسح دموعي المنهمرة وأنا أتذکّر كيف دخلت منزلنا يومها
مفاجئني بقولك: "سأرسلك لزیارة الإمام
الحسين(ع)". إبتسمت قائلةً: "لا تمزح... فأنت لا تسمح لي بذلك؟ تابعت درسي
غير آبهةٍ بما سمعت... جلستَ بقربي آخذًا یدي هامسًا: "لا امزح... أنت مشتاقة
لزیارة الإمام الحسین (ع) وأنا سأحقق لكِ ذلك".
نظرتُ إليك بدهشة. هل هذا أنت حقًا؟ كيف سمحت لي بأن أذهب
وحدي إلی العراق؟ أأُصدق ذلك؟
بعد مرور یومین، وأنا أجمع أغراضي للسفر شعرت بأنك ترید
قولَ شيءٍ ما. تساءلت عيناي ما خطبك؟ دنوتَ مني، جلست بقربي وقلت: "أنتِ
ذاهبة إلی کربلاء... وأنا، يصعب عليّ الذهاب إلی الجامعة دونك... يصعب عليّ المجيء
إلی بیتکم بغيابكِ... يصعب علي أن أدرس
وحدي... يصعب عليّ فعل أي شيء دونك... بل يصعب عليّ التنفسُ من دونك... لذا ارتأيت
أن أذهبَ هذا الأسبوع إلی الجبهة فتلتقي روحانا في مكان واحد...
انتفضت مذعورةً وصرختُ خائفةً:
"لا... أخاف علیك، لا تقلقني أثناء الزیارة... لا تذهب
أرجوك...".
قلتَ: "سأعود"...
لكني لم أكن أسمع شیئًا وکنت أكرّر لا .. لا .. لا.
وإذ بك سرعان ما وجدت الحلّ لإقناعي، وأنت تعلم بأني لن أتنازل عن
الزیارة... فهرعتَ بقولك: "إن لم تسمحي لي فلا بأس... أنت لا تذهبي إلی
کربلاء، وأنا لا أذهب إلی الجبهة".
صرخت عندها: "لا"... وقد توسطت وجنتينا ابتسامة الظفر
...
حضّرتُ حقیبتك بيدي وحقیبتي كذلك... كما کنتُ أنا أرید
الذهاب كنتَ أنت تريد أيضًا...
كنت قبل یوم من ذهابك... تحدثتني عن قبر الزهراء (ع)، شعرتُ
حينها بالخوف عليك، وأحسستُ أنك لن تعود، وحين أسميتها أمك فاطمة (ع) ازداد خوفي وسألتُ
نفسي: هل سيبقى جسدك أیضًا في الجبهة؟ أجهشتُ بالبکاء... يغمرني صمتُكَ الدامع، مسحتَ
دموعي بيدكَ ومسحتُ دمعَك بيدي، وتناولنا طعامنا الأخير معًا في بیتکم... أتذکر؟
کنا نجلس سويًا، وکنت كلّما نظرتُ
إليكَ فجأة أراك تنظر إلي بشوقٍ عميق تراقبني بصمتٍ حزين، وأنا أنظر إليكَ وقلبي
یصرخ بأنك لن تعود...
· يتراءى لها مشهد الوداع وتكمل
خطابها له:
حان وقت الوداع... وقفنا عند الباب... کلٌ يحدّق في عيني
الآخر، نبتسم ونبكي في آنٍ معًا....
سألتُك إن كنتَ ستأتي لاستقبالي في المطار بعد عودتي، مجيبًا كما اعتدت:
"إن شاء الله".
اشتد بکائي... مصرّةً أن أسمع منك وعدًا بذلك لأنك عندما تعِد
لا تخلف وعدَك أبدًا.
لكنك اكتفيت بابتسامتك المعتادة وقلبي ينتفض صارخًا:
"عد لي... عد لي...".
لا أنسى ذلك اليوم، کیف کنت أطلب عودتك وأنا أعلم جیدًا أنك
لن تعود.
قلتَ: "نعم أعدك"، وکانت عیناك تومي لي بأن:
"لا تصدقي".
کادت الألسن تنطق عكس ما تؤكد العيون، وكلانا يفهم لغة
عيني الآخر أکثر من كلامه.
كانت
عيناك تصرخ: بلن أعود، وعيناي تردّد "أعلم
ذلك".
صرت تبتعد عن الباب رويدًا
رويدا... وأنا أشعر بانسلاخِ قلبي من جسدي... وذهاب روحي معك... وقفتُ أرقب ذهابك
بصمتٍ، أحصي خطواتك... أخال نفسي راکضةً نحوك، مناديةً لك بأن تعود للحظة وأراك
مرة أخرى. وكي أتحمّل لوعة الفراقِ حاولت أن لا أفکر سوى بسفري إلى کربلاء، وهذا
ما كان يشعرني بالسکینة بعض الشيء.
· عودة الصديقة من داخل الحرم:
عادت صدیقتي من زیارتها... وأنا ما زلت جالسة خارج الحرم
أرقب الساعة...
قالت: "هيا نعود للفندق ولا تقولي مره أخری بأن محمد
استشهد".
کانت لا تزال غير مصدقةٍ کلامي، كما في الحافلة، أعلم بذلك
قبل أي أحد ولا أنتظر إخباري.
عدنا إلی کربلاء، وأنا أتهيّأ لسماع الخبر... لم تتمكن من
الاتصال بي، بل کنت أعرف أخبارك من والديك، ما يريحني بعض الشيء، في هذا اليوم
تحديدًا كنت على يقين أني لن أسمع بكلمة "محمد بخير"، ولن أسمعها بعد
ذلك. وإذ بشیخ الحملة يقترب مني ليقول: "لا تخافي خطیبك قد أصيب لكنه
بخير"، فقلت باكيةً: "هو استشهد".
قال: "لا، أصيب فقط برجله".
وكأنه يطلب مساعدة صديقتي بطمأنتي ملتفتًا إليها قائلاً:
"ألیس كذلك؟"
أجابته باكيةً: "لا، فهي تعلم منذ الصباح بأن خطیبها
استشهد".
كنت أبکي غير عالمةٍ إلى أين الذهاب، فليس من مكانٍ يريحني
سوى حرم المقام.
أركض باكيةً وتركض هي خلفي. غير مهتمةٍ بمن حولي، حتى کدت أصطدم
بعجوزٍ صرخ في وجهي: "ما بك." لم آبه لكلامه وتابعت مسيري، وصدیقتي تصرخ
مبررةً تصرفي: "استشهد خطیبها"
أوقفني العجوز ليهديء من حزني ولكن هل کنت سأستمع لکلامه؟
نعم، استمعت
إليه، مكرّرًا قولها: "استشهد
خطیبك؟ أتعلمین أین أنت الآن وماذا يعني هذا المكان؟ أنت في کربلاء! تقدمين زوجك
وأنت هنا، وبالطبع تعلمي کیف استشهد الحسین وأبناءؤه (ع)؟ ادخلي الحرم يابنتي فأنت
من تستحق زيارة الإمام (ع)، ادخليه مرفوعة الرأس فقد قدّمت لطریقه قربانًا، هنیئا لكِ.
كم
کنت بحاجةٍ لسماع ذلك، خلته والدي مدخِلاً السکینةَ في أعماقي.
دخلت الحرمَ مخاطبةً إمامي (ع) شاکرةً إياه لاستضافتي لحظةَ
استشهادِ الغالي وأنا أقول: لقد استشهد غريبًا مثلك، أعِنّي وصبّرني على فراقه،
فأنت أعلمُ بحالي".
توجهت لبيروت لاستقبال جثمانك، وما إن وصلت المطار حتى
نسيت ما أتيتُ لأجله وخلتكَ تنتظرني حاملاً باقةَ الورد بحسب الوعد، بحثت بين
الجموع لم أجدكَ لكني كنت أراك في وجوههم، وصوتك يردّد على مسمعي: "تقبل الله
أعمالكِ". وإذ
بوالدي يخترقُ خيالي مربّتًا علی کتفي بحقيقةٍ أليمةٍ قائلاً: "أعظم الله أجركِ".
الجملة نفسها سمعتها من والدك أیضًا. تذكرتُ فجأةً أنك جهزت کفنك، الذي طاف معك الأماكن
المقدسة وطلبت منهم تحضيره لاستقبالك. فصعقني ردُّ والدك جاهشًا: "أي کفن؟
ولمن؟ لم یعد جثمان محمد، لقد أصیب في رأسه وبقي ثلاثة أیام في العراء، ثم أسروه
شهيدًا".
كدتُ
أسقط أرضًا وإذ بصوتك يناديني بما قلته لي قبل رحيلك: "إن
استشهدت تصبّري ولا تحزني، فسنبني بیتنا في الجنة، لا تهتمي بالدنیا فهي زائلة، لاتقلقي،
روحي سترافق روحَك ونُسبّح لله سويًا".وما الذي يصبّرني وما وجدت لك قبرًا
يواسيني؟
· ها هي من جديد في حرم المقام:
تسعةُ أشهر مضت، ومع طلوع شمسِ کلِّ صباح، أتذکر حرَّ
الشمسِ على جسدك ثلاثة أيامٍ مواسيًا جدك الإمام الحسین (ع). وأتفرغ بعد ذلك
لقراءةِ كلِّ رسائلك يوميًا، مستعيدةً شريط ذكرياتنا من أول يومٍ أوفدتَ فيه أمك
لطلبتي مخافة أن يسبقك أحد، وحتى يوم خطوبتنا، تتنقل هدایاك بين يديَّ الواحده
تلوَ الأخرى، وبعد كلِّ صلاةٍ أتذكّر كيف كنت تسبح علی أصابعي وأنا أسبح علی أصابعك
لنتبادل الأجر والثواب. ترافقني خطواتي اليومية وصيتَك التي عنونتها كما يلي:
"إلی الأم والأخت والزوجة والحبیبة والإبنة". وهذا ما كان يؤلمني أكثر،
إذ فقدت أنا، الإبن والأخ والزوج والحبيب والأب في فقدانك يا محمد.
صبرت نعم حتى عودتك وكان الله معيني على ذلك، فهو دومًا مع
الصابرين. عدتَ جثمانًا، لكنك عدتَ.
"عاد جثمانك محمد، لکن حبیبتي الأولی
لا يزال جثمانها مغیب"...!
أشاهد الساعة من جدید وحمائم الحرم أيضًا، لكن هذه المرة صدیقتي
ليست معي لأقصّ عليها ما أرى.
مضت سنة... لا، بل أقل من
سنة. أرقب الساعة في الحرم إنها التاسعة تمامًا من یوم الأربعاء، أطوف مع حمائم
الحرم، وأعلم أنك تنظر إليّ مبتسمًا قائلاً: "تقبل الله زيارتنا".
تركت القلم والأوراق، إنها
الواحدة بعد منتصف اللیل... انتهیت من الکتابة... حدّقت في المرآة، لأجدَ لونَ
وجهي متغيّرًا شاحبًا، أصابعي مرتجفةً، شعرت حينها بانخفاضِ مستوى ضغطي، استلقيت
لأرتاحَ، فأغمضتُ عینيّ مكرّرةً: "كانت أصعب قصةٍ كتبتها في حياتي"...!
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.