
بين الواقع والخيال
حياة خاصة
الكاتب: جيهان دايخ
استيقظ
ذات صباح... وشعر بضيقٍ في صدره وكأنّ الليل شلح عبء سواده عليه... نظر مطولاً في صورة
الفتاة المعلّقة على الجدار أمامه وكأنه يرجوها
أن تكسر سكون غرفته القاتل وتنطق بأي كلمة... أو تبتسم أي ابتسامة... فعندما أنهى رسمها..
وعلقها على الحائط، بات يتمعّن بها إلى أن تراءت له وكأنها تبتسم... فصار يسمع ضحكة آتية من خلف الجدار... متوهّمًا
أن الفتاة تلك... مدركة بوضعه إلى أن صارت صديقته الوحيدة! لربما كان يتهيأ، أو أنه
بقي وحده طويلاً فخُيِّلَ إليه أن الأشياء من حوله دبّت الروح فيها... طويلةٌ كانت
وحدته فأصبح خيالاً واقتنع بالخيال...
للحظة،
أحسّ نفسه على شفا حفرة من الجنون، فالبقاء مع نفسه لفترات ضاهت الحزن عمراً ... خلق
عنده نوعاً من الصمت الداخلي المفجع، قرر عندئذٍ، أن يركن الفتاة الصامتة التي اخترعتها
أنامله على رفِّ الأشياء المنسية.. وأن يغصب نفسه على معاشرة الأحياء، بدلاً من الأشياء...
ترك
البيت متوجّهَا إلى مقهىً قريبٍ، حاول الاختلاط بالناس ومصادقتهم، فأعجبته فتاة كانت جالسة
أمامه في المقهى، ترتشف القهوة بيدٍ بيضاء كالثلج... المسافة من مقعده إلى مقعدها كانت
بنظره، الخطوات الأخيرة في مشوار تعاسته الذي طال سنين.
ناعمةً
هي كنعومة أظافر البراءة، بعد تبادل نظرات الإعجاب بينهما، تسلسلت في ذهنه ليالٍ حالكة
السواد كان قد عاشها قبلاً... وأيامٌ ناصعة البياض، والبياض فقط... معدومة الألوان...
تجرّأ عندها واقترب ليلقي التحية... وتحية ولدت حديثاً وحديثاً أنبت إعجابًا.. وإعجابٌ
أودى به إلى أقصى نقطةٍ في وادي الحب.ٍ.... عاد إلى البيت مغمورًا بالفرح، كما لو كان القدر قد رمى في صحرائه واحة بعدما أضناه
العطش. حمل اللوحة تلك ودفنها في صندوق صغير لا يتسع لما فيها من جمال وإبداع...
تكثّفت
لقاءاتهما وتكررت حتى أصبحت يومية... ونشبت بينهما قصة حب صغيرة... حملته في طياتها
الملائكية إلى أحلامٍ وردية ودنيا تختلف عن دنيانا في اللون والعبير... دنيا لا تعرف
الحزن ولا البكاء... أو أنه ظن كذلك.
رغم
سعادته بقي شبح الفتاة في اللوحة يطارده بين الحين والآخر... وكأن بها تعاتبه على دفنها
وهي التي لطالما كانت وفية... نسيها... وحينما خطرت بباله... تناساها!
مسكينٌ
هو... ظن أن نعومة الوجه وبياض اليد.. يعني الصفاء... لم يكن يعلم حينها أن البعض
يخفي تحت جلده المزيف وحشًا صغيرًا يكبرُ كلما ازداد به العمر...
غدرت
به حبيبته... ألوَت ذراعَه... زرعت في كل خطوةٍ مشاها معها، شوكًا ذي غدرٍ أليم...
كشفت عن نابها وغرسته في جوف القلب حتى أدمته. تجرّدت من براءتها فجأةً، وكأنها ثعلب
يحتال حتى الوصول لمبتغاه
لملم
قطع القلب المنكسر... وعاد أدراجه إلى بيته... إلى كونه... إلى وحدته...!
فتح
مدفن صديقته الصغير... مسح عن وجهها غبار الألم والحطام الذي غطى ابتسامتها البريئة
... أعادها إلى مكانها سالمة... تسامح منها لأنها لطالما كانت وفية... فهي فعلاً...
لم تسمع أحدًا قبله... ولم تنظر إلى أحدٍ غيره.. ولم تبالي لحزن الكون كله وهي معه. وانتظرت طويلا حتى يعود إليها... بكى على زجاج عينيها
الشفاف.. أدرك حينها أن:
"البعض...
لا حياة له حين تناديه... والبعض الآخر رغم جموده، يخلق في نفسك الحياة حتى يسمعك".
هي قصة خيالية كلوحته.... وواقعية كوجعه. لكنها ممتعة يلقى بها نفسه.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.