حكايةُ السجّان
قراءةٌ في الجحيم
الكاتب: الأديب الشاعر أحمد وهبي
كأنما
افقت في يوم آخر، لأعيش مرة أخرى تلك الحماقات البيضاء، لأبتعد قليلاً بنفسي عن نفسي،
وبعض هذه الصور، وهذا الكلام، عالم بأسره وقد تقلد حماقاته السوداء... ووددت لو
أراني في حيوات أخرى، وأنا أحياها يأسرني كل هذا القتل، ويكون المساء وطنآ آخر،
والصباح حياة تالية وتالية بلا هدف أو ميناء، ولمهدّئات الأعصاب مجد تليد... يجيء
واضحاً كمخلوقٍ مصلوبٍ على وجه التراب،
وفي الأحداق دموعُ سراب، ﻻ تروي مضطهدين، وحين بلغوا ما وراء الحلم، كسروا
الأحلام بكسرة خبز، وتثانى عرق الجباه في دنان العمر، يهزجون غيمات يتيمات الخصب،
والفصل الأول أطول من ناطحات السحاب، حتى إذا ما بلغ الشطط، وأخذ منا الخوف
والتعب، ونضب القلب من الحب والأشواق، والعقل من الحلم والصبر والحكمة، فلا حين
مناص من هذا الصلب.
عن
هذا الصلب مآثر خيم النازحين، ضيوف الزمن المكسور، ونحن ندور في دوامة العنف،
نشاهد كيف تنهار الأمم، فلا فخر، ﻻ فجر، ﻻ أنهار لبن وعسل، نغفو ونفيق والخلاف ما إذا كنا
بشر، ورؤانا بلا تنميق احتضار واختصار، ابتسار لأرواح الوجود، وأحيانًا ﻻ مجال
للتفاؤل، جموع أمم تتضاءل تتساءل والقصة واحدة الملامح، كتب مقدسة وتقاتل،
امبريالية عالمية، كولونيالية شعوبية، اشتراكية، تأسلم سلطوي، والإيمان مثل حكاية
السجان، نغفو ونفيق بالخيبات، ومجالس العورات والتوريات مثل عسس الليل وجلادي العباد...
إلى الصلاة، إلى الصلاة، أدام الباري، موﻻنا السلطان... كان وقتها كبيرًا مثل هرم
مخصي، منفوخًا كالغمام، واحدًا ضاﻻً. والقصص نقرأها لأجل خلاص فرداني، ونسأل كيف
جردت الثورات من نجومها...؟
في
يوم مصرع الأرض، كانت الشعوب تهرع على غير ما هدى، وإذا ما انبلجت دماء نخسر أبطالنا
بإمعانٍ شهوي النار والحديد، وﻻ رأي سديد، أيام غرائزنا نقيمها ونميل إلى الضحك
والجنون، لأمنا الحنون كي نردن بلغات العالم، وﻻ نفقه لغتنا، ﻻ نعلم عن أمرنا يومًا
أو غداً... وتنفلت الأبعاد، تنكسر المرايا عن وحوشنا، وجيوشنا مفردات واهية، فإذا
ما محصنا البلاء تهنا من حرب إلى حرب، ومركبات القفار أخاديد الأبدان والأجداث والأساطير.
في
سن الطفولة، سنن تغير القناعات والحياة، تلك التي نطل عليها في سن البلوغ وقد
بلغنا قتلنا باشتهاء عقائدي خالص الضرائب.
في سن المراتب مرابون من كل جرح وعمر، وإذا ما أثمر القطاف سرنا بلا رؤوس
إلى كهوف المتع، وﻻ كلام، ﻻ نفيق من هذا القتل والسحل والإغتصاب، ونقول شوقاً
للخالق، إلهي كيف ننافق ونعاقر اﻵثام... وندعي ما ندعي، وندعو باسمك لكل ذنب...؟
ذنوبنا فوق كواهلنا، ونحن أذناب العابرين، ومذنبات الشهب تكمن لرواياتنا لأجل كائنات
ﻻ تقتل...!
ﻻ
نقتل ندعي، وﻻ حروب، فهذه أداورنا رسمت منذ العدم،.ويصرخ آخر يا رفاق السلاح، وآخر
لجهاد النكاح، وآخر للأجر والثواب، وآخر... ﻻ آخر مجرد كومبارس باسم الخالق والوطن
والأسود والهررة والليالي الملاح. وكان لنا إسم ورسم يقابل الجمال، وكان أن أفقنا
كحمّالي الأسفار نقول ما ﻻ نفقه، نجهل ما نحمل، نضمر الشرور بحب وعشق وفتاوى من
هيمنات زمانية أو وعاظ، فالنصر في حواضر
العرب انكسار العرب، والدمار إذا ما أظلمت الدنيا، وأسلمت لسلطات الرواية، انكسر
الشغف في كروم التين والزيتون، والظﻻل تواري أحاسيس الظلام، ونحن نهيم بقدرات
عجائبية، نحفر أقفية الهياكل لأجل الحق والحقيقة... وأنشد رفيقة صديقة في هذا
الموات الطويل. وكان العالم واضحاً مثل كلاب الليل والحارات يعوي، وكنا نقرع للقمر
كما للحروب، وما أشتهر عنا غير الخيانة والطاعة العمياء واستدرار الحروب حتى
الإنطفاء.
وﻻ
تكفينا، ﻻ تكفينا متع، ونحن نمعن في الثقوب السوداء تمثلاً لزمن أطول، نتخيل
الرغبات في جميع الاتجاهات، والجهات مجهولة، تصير قصصنا الهرمة الخرفة، كأنا خرق
بالية في تأصيل الإنحدار، حتى نعتقده إنجازًا حداثي ما بعد قرون الغياب. على مقاعد
الرحيل، ومن خارج الرحم، وبكل قوة وغضب، كان النص كأنما ولي الجنس والمال والقتل،
وبمتعة الإخراج هذه هي قيمنا، نتمثلها بسردية خارج القيم، وكذلك يمكن سحب التاريخ
إلى خارج ما كان، فالتاريخ إنما يكتبه المنتصرون الأقوياء. وفي الاقتباسات ثرثرة
فوقية، وعلى الأرض حساب وعقاب، فلا غنى لعقل، ﻻ أمم، ﻻ شعوب، قطعان طوائفية بضمانة
صكوك الغفران، كأنما إنتاجية حرفية ﻻ نهاية لها، وما بين القلب والطعنات غير رمشة
عين، شراذمها أوبئة خلاقة في شريعة الأنانية، حينها ﻻ نمو، إنغلاق حتى الوقوع في
الفتن، في قاع بلا قرار، وأكثر ما يؤلم أن يكون هذا هو القرار، فالمقبل بلا أمر أو
قرار، قراءة في الجحيم، حينها يكون الإنتصار في مكان وزمان آخر، ربما في العالم
اﻵخر.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.