غدٌ مكسورُ الشعوبِ والخاطر
لا ماضٍ ولا حاضر
الكاتب: الأديب الشاعر أحمد وهبي
نظرةٌ من سماءٍ غير مسيّجةٍ أو مرقّمة، ولم أرَ في دنياي غير ظلين لمؤمنٍ وكافر، يتثاقلانِ بعقاقيرَ مهدئةٍ لحواسِ جنسٍ ومالٍ وقتل، وﻻ يموت المغني.
كنت، قد ذهبت عن أيامي مثل عصافيرٍ حملت ملاعبَنا وهاجرت،
فلا أدرك رؤاي، مطارحي وزمني... والغرفة المضاءة بخزامى مشاعر في دفتر العشق،
تناثرت كي ﻻ تكشف جنون فتىً راح في زرقةِ الرسوم بأهدابٍ تناثرت حول منضدةِ الاحتراق،
تهادلت برغباتٍ مثيرة... كانت تُروى في ليالي الصقيع.
عن ذاك التماجد الفطري، أوراقٌ بعيونٍ راضيةٍ ترصّعُ أزهارَ
بيتِنا آنذاك، والفتى موزِّع اﻷرواحِ بحبيسِها وطليقِها، بانجذابٍ عاطفيٍّ لمسارحِ
الأهلِ والجيران... وفي ذروةِ الحياة انتحارٌ لمبدعينَ وطغاة. لضرورةِ العيش فن العيش،
فلا تموت حياةٌ وإن غيّرت في شكلها.
كان الرصاص صباحاتنا المؤرقة، كاتم اﻷسرار واﻷسحار، سيّاف الوقت،
وفيه اعتدالٌ وابتهالٌ بين شروقٍ وغروب، نومٌ بلا ألم... وهذا الوميضُ في رائعةِ
النهار انكسارٌ لشمسِ المعرفة، فكان لغزالةِ الماءِ طبقٌ بألفِ لسانٍ وشفاهٍ توشي
رحمةَ افئدة، ترمُق هذا الكحل المصفى، هذه اﻷعماق، أحفِرُها بقسماتِ أطرافي، أجِدُّ،
أكِدُّ فيها بيومٍ عن يومٍ على دويِّ السقوط.
وهذا البيت العتيق... يرسم طريقه، رسلٌ فتية حصار وماء،
نبيٌ في غار حراء... في هذه الحياة، في بيت العنكبوت انكسارُ الوهم... وصاحبي عن
زمن المهاجرين واﻷنصار، يصغي لهذا الشعر "الكريم"، فأنشدتُ حياةً تلوَ
حياةٍ تلوَ عجائب، كما أحمل حجرًا على عدو، سكينًا، وجوه ليست
بزمان وﻻ سنين. ونحن لم نعش... لم أعِش ما رسمت اﻷحلام، لم أمت، فما أصنع بطولِ
الدهر وعراضاته؟ فلمثقل اﻵﻻم ضجيجُ الدهور، تنطوي وفي لحمي وعظامي أنيابُها،
انقيادها لمحاربين إذا ما كشفوا عن لحومِ المسافات، ﻻكتها المرايا بانصرافٍ لغويٍّ
لمحفوظاتِ مباهلاتٍ ﻻمتناهية.
عند آخر نقطةٍ ﻵخرِ ثانيةٍ نائيةٍ تحت قوس قزح، تبرزخ عالي
التوتر كان قد بلغ حلقومَ وأمعاءَ الراوية، وكانت لحظاتٌ بحجمِ الجمالِ تحاول عبورًا
من سم الخياط، من مرايا توحِشنا تنبعث حيّةً في مراجِلِ التهاوي. وذلك أن الدنيا
الغَرور المسمّاة أيضًا باﻷمل، المسومة بتردادِ صورٍ غامضةٍ لعاشقين، في لحظاتهم
الطويلة انخلاعُ ليلٍ وخمرٍ وخيل، وهُبَل يوزّع الحلوى، فلا تكوّر لغيرِ أجسادٍ أحنت
على أناتها، وبعد دماءٍ من ليالٍ حمراءَ وخمارين عبرنا قنطرةِ
الموتِ بظلالٍ نكادُ ﻻ نراها في حماةِ اليأس واﻷمل.
واﻷيام التي تبدّت ترجمات عالمية لقصصِ الحياة، لسباقٍ
خارج الزمن، لتسابقِ وتلاحقِ أفكارٍ سلحافتية... إلى العتمة، حيث قبعنا تعبًا من حروب،
واحتراب يصاحبنا من أولِ صرخةٍ في الحياةِ حتى انكسارها بلا شهودٍ وشواهِد، وكانت
تكدّسًا لمسيراتٍ عالميةٍ تتّقن فنَّ الموت، فلا تليقُ الحياةُ بحاملي أحزمةِ
الموتِ الحواري المقدس.
تحاملتنا مراكبُ أبدانِنا فمضيتُ عن نفسي إلى ملاذاتٍ غيرَ
آمنة، غير آبهٍ بمارّة، بموتٍ مزركش، بانتصاب قيافات، بتنصتٍ ﻷطرافٍ لدى مرورنا
السريع نحو مستنقعاتِ العولمة، تحمل مؤلفاتها إلى مطارحَ خدعتها الحروب، وعند حافةِ
الكونِ ولدٌ يرومُ ابتداءَ الكون، فلهذي الدماءِ جموعٌ أوﻻء السابرين السامقين
بأهوالِ خطايا مقلدةِ الجذوع، المنثالة بخشوعِ امرأةٍ أبصرت عشقَها بعابرِ قحطِ
المَحَار، فانحازت لمطرٍ يغنّي، ﻻ يسْمَن عن عشقٍ أو يغني، وليست بالشبعى أو
بالخانعة تترقب، ترتقبُ خُطى الرمالِ وراء الغلالِ وحِمى الثرى وقدِ انبرى للوغى
لحمٌ دفين، قطراتٌ غرثى، زهيراتٌ وأشواقٌ حُبلى، أطفالٌ في مهاجِعِ وسرادِقِ
البنادق.
هناك، في حدائقِ الحياةِ غَفت عيونٌ، كانت تروحُ بأطرافِ
الرموشِ إلى فتيانِ الحاراتِ وقد امتلأوا بمائِهِم، فلم نظمأْ صلةً لدمٍ وأصدقاء.
ما أغرب هذا الغياب؟ هذي الحياة تنادي علينا، تبكينا وتذرف
أننا نضجنا كثيرًا فوق مسارحِها، أننا نحمِلها اتقادًا وهيامًا، أننا نعنّفُها
لتفتنَنا، لتأخذَنا بهائلِ صخبٍ وأنين، بأوﻻدٍ هناكَ يضجّون بنا على ملاعبِنا.
والحياة ﻻ تنتهي... وكان يسوسُها وجلٌ وخجلٌ، أترابٌ لي من
سكونِ اﻷناقة، والقِفار المرصودَةُ لخيالاتٍ تسنُد بعضَها البعضِ كي ﻻ تذبَل السنابل،
وﻻ الحواملُ ﻷبناءِ (الحرة)... وكانت يثرِبُ تجمعُ قماشاتِ التماثل، كانت بين
الصحو والمطر تنمُش اﻷقحوانَ، والعادياتُ يحملها الحجّاجُ لبطونِ اﻷرض، فانطوى عارٌ
ضخمُ الجثةِ بقبضةٍ هوَت على قريش كي ﻻ تسقط، فسقطت مكة، وعند البيت راشدونَ
وراسخونَ في العلمِ بلا بيت، فتهاوى ركنٌ ومقامٌ وحرم، وانعدمَ بدرٌ بشَّرَ "ببدرٍ"
و"أُحُد" و"الخندق"، وكانت هناك مدافعُ وقذائفُ المنجنيقِ
ترمي الكعبةَ مثل أيامِنا.
صراخٌ يقطَن أرجاءَ
الحواضر... يا لعرائنا، ﻻ ماضٍ، ﻻ حاضرٌ، غدٌ مكسورُ الشعوبِ والخاطر، فما مضى
انبجاسُ الدمِ بهذا البيتِ والصرفِ والنحو. وبي كلما أصحو ألفُ فتنةٍ واغتيال،
وحيث كنتُ والملاعبُ سينفجِرُ فجر، سينتهي بنا إلى انتظارٍ حول مقصلةِ الجلاد.
انت مبدعة وأديبة وشاعرة
تتحلين بمناقب عالية
وإنسانية ﻻمتماهية
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.