حاجة الناس إلى من يُحَكّمون القانون فيما بينهم
في ظلِّ مجتمعٍ مثاليّ، يأبى ضمير كلِّ فردٍ فيه أن ينكرَ حقوقَ الآخرين، قد لا تبدو ضرورة كبيرة لوجودِ "القضاء"، غير أن هذا المجتمع لا وجود له في حقيقة الأمر. فمنذ أقدم الأزمنة وحاجات الناس المتزايدة تدفعهم في ظل ثروات متناقصة إن لم تكن نادرة، إلى المنافسة. وحين تتعارض المصالح قد تنزع النفس البشرية بحكم طبائع العداوة والبغضاء التي جبلت عليها جنبًا إلى جنبٍ مع طبائع الخير، إلى عدم الانقياد للحقِّ أو الانصياع للدليل. وحتّى إذا نزعت النفس نحو الخير فماذا ننتظر منها إذا كان امتناعها عن أداء ما عليها ليس عن عمد وإنما عن "وهم" جعلها تقتنع على خلاف الحقيقة ببراءتها؟
لهذه الأسباب ولدت المنازعات يوم ظهرت التجمّعات. فهل
قصة ولدي آدم (ع) عن أذهاننا ببعيدة؟ ويومًا بعد يومٍ تكاثرت هذه المنازعات، بل
وستتكاثر كلّما امتدّ عمر الإنسان الحضاري. ولا يعوزنا الدليل على ذلك فهو واضحٌ
للعيان.
ولكن لا بدّ من حسم المنازعات، فما السبيل إلى
ذلك؟
في العهد الفطري لم يكن أمام الفرد سوى اللجوء إلى قوّته
الذاتية محاولاً الحصول على حقِّه، كما أعانت الأسرة أو العشيرة أعضاءها على ذلك.
ولكن هل هذا "القصاص الخاص" كان وسيلة مناسبة حتى لهذا العهد؟ إن من
مسلّمات العقل البشري أن القوة حين تكون القول الفصل في المنازعات يصير صاحبها
خصمًا وحكمًا فتكون النتيجة غالبًا بَطَرُ الحقّ إن لم يكن شططٌ فيه،ما كان يشكّل
تهديدًا مستمّرًا للحدِّ الأدنى من الأمان المرغوب لعيش الإنسان.
لذلك فبمجرد أن بدأت إرهاصات المجتمع المنظّم، اهتدى
ضميره الجماعي إلى ضرورة الالتجاء إلى "ثالثٍ" لفضِّ المنازعة التي تنشأ
بين الإثنين. وهكذا عرفت البشرية فكرة "التحكيم". ولكن هذه الوسيلة ظلّت
قاصرة عن بلوغ الغاية. فقد كان اللجوء إليها اختياريّا، وكلّما شعر الفرد بقوته،
عَدَلَ عنها واستساغ اقتضاءِ حقِّه بنفسه.
ولم يخفّف من عيوب "التحكيم الاختياري" هذا،
إلاّ نشأة الدولة وقيامها بفرضِ فكرةِ التحكيم على الأفراد. ولكن حتى هذا
"التحكيم الإجباري" لم يكن بالدرجة الكافية من التنظيم لإقامةِ العدل، إذا
لم يكن المحكّم، لديه إلمام بالقانون دائمًا، وحتى إذا توافر لديه الإلمام فما
الضمان بألاّ تُباع العدالة وتُشترى؟
من هنا، ما إن قَوِيَ نفوذ الدولة الناشئة إلاّ وقد وضعت
على عاتقها هي مهمّة الفصل في المنازعات، بل جعلت ذلك من أخصِّ واجباتها، فلا يصحّ
أن تباشرَ هذه المهمّة الصعبة والمقدّسة في آنٍ واحدٍ إلاّ بواسطةِ مَن هيّأتهم هي
لتحملَ فروضَ أدائها: قضاة يعلمون القانون ويتحلّون بالحِيَدة، ويمثّلون إحدى
سلطاتها الثلاث وهي السلطة القضائيّة، ومن يومها أصبحت البشرية تعيش مرحلة
"القضاء العام" ولا نظن أنها ستموت عن خلف.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.